الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ***
(باب ما جاء في صلاة الكسوف) قال الحافظ في الفتح: المشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح وقيل يتعين ذلك، وحكى عياض عن بعضهم عكسه وغلطه لثبوته بالخاء في القرآن. وقيل يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث. ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف لأن الكسوف التغير إلى سواد والخسوف النقصان أي الذل، فإذا قيل في الشمس كسفت أو خسفت لأنها تتغير ولحقها النقص ساغ وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، وقيل بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء، وقيل بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه، وقيل بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغيره انتهى. 556- حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ حدثنا يحيَى بنُ سعيدٍ عن سُفيانَ عن حَبيبِ بن أبي ثَابتِ عن طاوُسٍ عن ابن عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه صلّى في كسوف فَقَرأ ثمّ ركَعَ ثم قَرَأَ ثم رَكَعَ (ثم قَرَأَ ثمّ ركَعَ)، (ثلاث مراتٍ) ثم سَجَدَ سجدتَيْن، والأخرَى مثلُها". (قال): وفي الباب عن علي وعائِشةَ وعبدِ الله بن عَمْروٍ والنعمَانِ بن بَشِيرٍ والمُغيرة بن شُعبةَ وأبي مسْعودٍ وأبي بَكْرَةَ وَسَمُرَةَ وأبي موسى (الأشعري) وابنِ مسْعودٍ وأَسماءَ (بنت أبي بكر) (الصديق) وابنِ عُمَرَ وقَبِيصةَ الهِلاليّ وجابرِ (بن عبدِ الله) وعبدِ الرحمَنِ بنِ سَمُرةَ وأبيّ بنِ كَعْبٍ. قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنّه صلى في كُسُوفٍ أرْبَعَ ركَعَاتٍ في أرْبَعِ سَجَدَاتٍ". وبه يقولُ الشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ. (قال): واختلفَ أهلُ العلمِ في القراءةِ في (صلاةِ) الكُسوفِ، فرأَى بعضُ أهلِ العلمِ أن يُسِرّ بالقِراءَةِ فيها بالنّهارِ. ورأى بعضُهم أن يَجْهرَ بالقِراءَةِ فيها كَنَحْوِ صَلاةِ العِيدينِ والجُمعَةِ. وبه يقولُ مالِكٌ وأحمدُ وإسحاقُ يَرَوْنَ الجهر فيها. (وقال) الشافعيّ لا يَجْهَرُ فيها. وقد صَحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كِلْتَا الرّوايتَيْنِ. صَحّ عنه أنه صلّى أربعَ ركعَات في أربعِ سَجَداتٍ، وصَحّ عنه (أيضاً) أنه صلّى ستّ ركَعَاتٍ في أربعِ سَجَداتٍ. وهذا عندَ أهلِ العلمِ جائزٌ على قَدْرِ الكُسوفِ، إنْ تَطَاوَلَ الكُسُوفُ فَصَلّى سِتّ رَكَعَاتٍ في أربعِ سَجَداتٍ فهو جائزٌ، وإن صَلّى أربعَ ركَعَاتٍ في أرْبَعِ سَجَدَاتٍ وأطالَ القِراءةَ فهو جائزٌ. ويرون أصحابُنَا أن تُصَلّى صلاةَ الكُسوفِ في جماعةٍ في كُسُوفِ الشمسِ والقمرِ. 557- حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبي الشّوارِب حدثنا يزيدُ بن زُرَيعٍ حدثنا مَعْمرٌ عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ عن عائِشةَ أنها قالت: "خَسَفَتْ الشمسُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فصَلّى رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) بالنّاسِ فأطالَ القراءةَ ثم رَكَعَ فأطالَ الركوعَ، ثم رَفَعَ رَأسَهُ فأَطالَ القراءةَ، وهي دونَ الأولَى، ثم رَكَعَ فأَطالَ الركوعَ، وهو دونَ الأولِ، ثم رفعَ رأَسَهُ فسَجد ثم فعلَ (مثل) ذلك في الرّكعةِ الثّانِيةِ". قال أبو عيسى: (و) هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وبهذا الحديثِ يقولُ الشافعيُ وأحمدُ وإسحاقُ يَرَوْنَ صلاةَ الكُسوفِ أربعَ ركَعَاتٍ في أربعِ سَجَدَاتٍ. قال الشافعيّ: يقرأُ في الركعةِ الأولى بأُمّ القرآنِ ونحواً من سورةِ البقرةِ سراً إن كانَ بالنّهارِ، ثم رَكَعَ ركوعاً طويلا نحواً من قراءتِهِ، ثم رَفَعَ رأْسَه بتَكبيرٍ وثَبَتَ قَائِماً كما هُوَ، وقرأ أيضاً بأمّ القرآنِ ونحواً من آلِ عمرانَ، ثم رَكَعَ ركوعاً طويلاً نحواً من قرَاءتهِ ثم رَفَعَ رأسَه، ثم قال: سمعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، ثم سَجَدَ سجدتَيْن تامّتَيْنِ، ويقيمُ في كلّ سَجْدَةٍ نحواً مما أقامَ في ركُوعِه، ثم قامَ فقرأ بأمّ القرآنِ ونحواً من سُورةِ النّساء، ثم رَكَعَ ركوعاً طويلاً نحواً من قرَاءَته، ثم رَفَعَ رَأسَهُ بتكبير وثبَتَ قائِماً، ثم قرأ نحواً من سُورةِ المائِدةِ، ثم رَكَعَ ركوعاً طويلاً نحواً من قراءَته، ثم رَفَعَ فقالَ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، ثم سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثم تَشهّدَ وَسَلّم". قوله: (أنه صلى في كسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد سجدتين الخ) أي ركع في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجد سجدتين، والحديث أخرجه أيضاً مسلم ولفظه، ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع وفي لفظ له ثمان ركعات في أربع سجدات. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ركع ركوعين في كل ركعة وسجد سجدتين ولفظهما: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم انصرف. وحديث ابن عباس هذا الذي رواه البخاري ومسلم أصح وأقوى. وأما حديثه الذي رواه الترمذي وحديثه الذي رواه مسلم فهما من طريق حبيب بن أبي ثابت عن طاؤس عن ابن عباس قال الحافظ في التلخيص: قال ابن حبان في صحيحه: هذا الحديث ليس بصحيح لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن طاؤس ولم يسمعه حبيب من طاؤس. وقال البيهقي: حبيب وإن كان ثقة فإنه كان يدلس ولم يبين سماعه فيه من طاؤس، وقد خالفه سليمان الأحول فوقفه انتهى ما في التلخيص: وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ركع في كل ركعة من صلاة الكسوف ركوعين وسجد سجدتين من عدة أحاديث صحيحة. قال الرافعي: واشتهرت الرواية عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أن في كل ركعتين ركوعين انتهى. قال الحافظ في التلخيص: كذا رواه الأئمة عن عائشة وأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وجابر وأبي موسى الأشعري وسمرة بن جندب انتهى. قوله: (وفي الباب عن علي وعائشة وعبد الله بن عمرو والنعمان بن بشير والمغيرة بن شعبة وأبي مسعود وأبي بكرة وسمرة وابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر وابن عمر وقبيصة الهلالي وجابر بن عبد الله وأبي موسى وعبد الرحمَن بن سمرة وأبي بن كعب)، أما حديث علي فأخرجه أحمد ولفظه: قال كسفت الشمس فصلى على الناس فقرأ "يس" ونحوها ثم ركع نحواً من قدر سورة الحديث، وفيه حتى صلى أربع ركوعات ثم قال سمع الله لمن حمده، ثم سجد ثم قام إلى الركعة، ففعل كفعله في الركعة الأولى، ثم جلس يدعو ويرغب حتى انجلت الشمس، ثم حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل انتهى. وقال مسلم في صحيحه بعد رواية حديث ابن عباس بلفظ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات. وعن علي مثل ذلك ولم يذكر مسلم لفظه. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان وفي آخره فاستكمل أربع ركعات في أربع سجدات. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الشيخان ولفظه: لما كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نودي أن الصلاة جامعة فركع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين في سجدة،، ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلى عن الشمس. وأما حديث النعمان بن بشير فأخرجه أبو داود وفيه: فجعل يصلي ركعتين ورواه النسائي بلفظ: فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة ركعتين. وأخرجه أحمد والحاكم وصححه ابن عبد البر وأعله ابن أبي حاتم بالانقطاع كذا في التلخيص الحبير. وأما حديث المغيره بن شعبة فأخرجه الشيخان وفيه فإذا رأيتموهما فادعوا الله تعالى وصلوا حتى ينجلي. وأما حديث أبي مسعود فأخرجه مسلم. وأما حديث أبي بكرة فأخرجه البخاري وفيه فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم، ورواه ابن حبان والحاكم ولفظهما فإذا انكسف أحدهما فافزعوا إلى المساجد، وفيه فصلى بهم ركعتين مثل صلاتكم. وللنسائي مثل ما تصلون كذا في التلخيص. وأما حديث سمرة فأخرجه الترمذي في الباب الاَتي، وأخرجه أبو داود والنسائي أيضاً. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه البزار والطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه حبيب بن حسان وهو ضعيف ولم يذكر لفظه بل أحال على حدشث أولالباب وهو حديث أبي شريح الخزاعي قال كسفت الشمس على عهد عثمان فصلى بالناس تلك الصلاة ركعتين وسجد سجدتين في كل ركعة قال ثم انصرف عثمان فدخل داره وجلس عبد الله بن مسعود إلى حجرة عائشة وجلسنا إليه فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر فإذا رأيتموه قد أصابهما فافزعوا إلى الصلاة الحديث، رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والبزار قال الهيثمي ورجاله موثقون. وأما حديث أسماء بنت أبي بكر فأخرجه الشيخان. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان أيضاً. وأما حديث قبيصة الهلالي فأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة، وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح كذا في النيل. وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وفيه فكانت أربع ركعات وأربع سجدات. وأما حديث أبي موسى فأخرجه الشيخان. وأما حديث عبد الرحمَن بن سمرة فأخرجه مسلم بلفظ: قال بينما أرمي بأسهمي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا إنكسفت الشمس فننذتهن وقلت لأنظرن ما يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في انكساف الشمس اليوم، فانتهيت إليه وهو يديه يدعو ويكبر ويحمد ويهلل حتى جلى عن الشمس فقرأ سورتين وركع ركعتين. وأما حديث أبي بن كعب فأخرجه أبو داود وفيه: فقرأ بسورة من الطول وركع خمس ركعات وسجد سجدتين ثم قام الثانية فقرأ سورة من الطول وركع خمس ركعات وسجد سجدتين. قال المنذري في إسناده أبو جعفر واسمه عيسى بن عبد الله بن ماهان الرازي وفيه مقال، واختلف فيه قول ابن معين وابن المديني انتهى. قوله: (حديث ابن عباس حديث حسن صحيح) وقد ضعفه ابن حبان والبيهقي وقد تقدم كلامهما (وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى في كسوف أربع ركعات في أربع سجدات) أخرجه الشيخان وقد تقدم لفظه (وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق) وهو قول الجمهور. قال النووي في شرح مسلم: واختلفوا في صفتها، فالمشهور في مذهب الشافعي أنها ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان، وأما السجود فسجدتان كغيرهما. قال ابن عبد البر: وهذا أصح ما في هذا الباب وباقي الروايات المخالفة معللة ضعيفة، وحملوا حديث ابن سمرة بأنه مطلق وهذه الأحاديث تبين المراد به انتهى. وقال الحافظ ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة في بيان أن تصحيح مسلم لا يبلغ مبلغ تصحيح البخاري ما لفظه: كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات، كما روى أنه صلى بركوعين، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات ابراهيم، وقد بين ذلك الشافعي وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب انتهى كلامه. قوله: (فرأى بعضهم أن يسر بالقراءة فيها بالنهار، ورأى بعضهم أن يجهر بالقراءة فيها كنحو صلاة العيدين والجمعة) ويجيء دلائل الفريقين (وبه يقول مالك وأحمد وإسحاق يرون الجهر فيها) وهو الراجح عندي (صح أنه صلى أربع ركعات في أربع سجدات إلخ) هذا بيان لقوله قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كلتا الروايتين والمراد بالركعات الركوعات (ويروي أصحابنا) أي أصحاب الحديث (أن يصلي صلاة الكسوف في جماعة في كسوف الشمس والقمر) أي وإن لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم بعضهم وبه قال الجمهور، وعن الثوري إن لم يحضر الإمام صلوا فرادى كذا في فتح الباري. قلت: وقال الحنفية أيضاً بأنه إن لم يحضر إمام الجمعة صلوا فرادى وقالوا لا جماعة في صلاة خسوف القمر، ففي شرح الوقاية عند الكسوف يصلي إمام الجمعة بالناس ركعتين وإن لم يحضر أي إمام الجمعة صلوا فرادى كالخسوف انتهى مختصراً. والقول الراجح الظاهر هو ما قال به الجمهور فأنه قد روى الشيخان من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا". وفي لفظ: فافزعوا إلى الصلاة. وكذلك روياه من حديث ابن عمر ومن حديث أبي مسعود الأنصارى. ومعلوم أن صلاته صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس كانت بالجماعة فالظاهر أن تكون الصلاة في خسوف القمر أيضاً بالجماعة. وأما إذا لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم بعضهم. وأما تعليلهم بأن في الجمع بدون حضور الإمام المأذون له احتمال الفتنة ففيه أنهم إذا اتفقوا على أحد يؤمهم وتراضوا به لا يكون احتمال الفتنة. قوله: (ثم رفع رأسه فسجد) وفي رواية للبخاري: ثم سجد سجوداً طويلاً، ووقع عند مسلم من حديث جابر بلفظ: ثم رفع فأطال ثم سجد، ففيه تطويل الرفع الذي يتعقبه السجود، ولكن قال النووي هي رواية شاذة مخالفة فلا يعمل بها، أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع. قال الحافظ في الفتح ما لفظه: وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو أيضاً ففيه: ثم ركع فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل لا يسجد، ثم سجد. لفظ ابن خزيمة من طريق الثوري عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه، والثوري سمع من عطاء قبل الإختلاط، فالحديث صحيح ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا. وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام وإلا فهو محجوج بهذه الرواية انتهى كلام الحافظ. قوله: (هذا حديث حسن صحيح) وأخرجه الشيخان. قوله: (وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد وإسحاق يرون صلاة الكسوف أربع ركعات في أربع سجدات) المراد بالركعات الركوعات أي يرون في كل ركعة ركوعين وسجدتين وهو القول الراجح المعول عليه، وقال الحنفية: إن في كل ركعة ركوعاً واحداً كسائر الصلوات الثنائية، واستدلوا على ذلك بحديث أبي بكرة الذي أشارة إليه الترمذي وقد ذكرنا لفظه، ففي رواية البخاري فصلى بنا ركعتين، وفي رواية ابن حبان والحاكم فصلى بهم ركعتين مثل صلاتكم، وللنسائي مثل ما تصلون: وحمله ابن حبان والحاكم فصلى بهم ركعتين مثل صلاتكم، وللنسائي مثل ما تصلون: وحمله ابن حبان البيهقي على أن المعنى كما تصلون في الكسوف، لأن أبا بكرة خاطب بذلك أهل البصرة، وقد كان ابن عباس علمهم أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان، كما روى ذلك الشافعي وابن أبي شيبة وغيرهما: ويؤيد ذلك رواية أبي بكرة من طريق عبد الوارث عن يونس في صحيح البخاري في أواخر الكسوف أن ذلك وقع يوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم: وقد ثبت في حديث جابر عند مسلم مثله وقال فيه: إن في كل ركعة ركوعين، فدل ذلك على اتحاد القصة وظهر أن رواية أبي بكرة مطلقة، وفي رواية جابر زيادة بيان في صفة الركوع، والأخذ بها أولى، ووقع في أكثر الطرق وعن عائشة أيضاً: أن في كل ركعة ركوعين، وعند ابن خزيمة من حديثها أيضاً أن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام كذا في فتح الباري: واستدلوا أيضاً بحديث النعمان بن بشير وقد تقدم تخريجه وفيه فجعل يصلي ركعتين. ورواه النسائي بلفظ فصلوا كأحدث صلاة صليتموها. والجواب أن هذا الحديث مطلق، وفي رواية جابر وغيره زيادة بيان في صفة الركوع فالأخذ بها هو أولى كما عرفت.
(باب كيف القراءة في الكسوف) أي بالجهر أو بالسر. 558- حدثنا محمودُ بن غَيْلان، حدثنا وَكيعٌ حدثنا سُفيانُ عن الأسوْدَ بن قَيْسٍ عن ثَعْلَبَةَ بن عِبَادٍ عن سَمُرَةَ بن جُنْدُب قال: "صلّى بنا النبيّ صلى الله عليه وسلم في كُسوف لا نسمَعُ له صوَتاً". (قال): وفي الباب عن عائشةَ. قال أبو عيسى: حديثُ سَمُرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى هذا. وهو قَوْلُ الشافعيّ. 559- حدثنا أبو بكرٍ محمدُ بن أبانَ حدثنا إبراهيمُ بن صَدَقَةَ عن سُفيانَ بن حُسَين عن الزُهريّ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةَ الكُسُوفِ وجَهَرَ بالقراءةِ فيها". قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. ورواه أبو إسحاقَ الفزارِيّ عن سُفيانَ ين حُسَينٍ نحوَه. وبهذا (الحديثِ) يقولُ مالكُ (بن أنس) وأحمدُ وإسحاقُ. قوله: (عن الأسود بن قيس) العبدي ويقال العجلي الكوفي يكنى أبا قيس ثقة من الرابعة (عن ثعلبة بن عباد) بكسر العين المهملة وتخفيف الموحدة العبدي البصري مقبول كذا في التقريب: وقال الذهبي في الميزان: تابعي سمع سمرة وعنه الأسود بن قيس فقط بحديث الكسوف الطويل: قال ابن المديني: الأسود يروي عن مجاهيل، وقال ابن حزم: ثعلبة مجهول انتهى. قوله: (لا نسمع له صوتاً) قال القاري في المرقاة: هذا يدل على أن الإمام لا يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، وبه قال أبو حنيفة وتبعه الشافعي وغيره. قال ابن الهمام: ويدل عليه أيضاً حديث ابن عباس روى أحمد وأبو يعلى في مسندهما عنه: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع منه حرفاً من القراءة، ورواه أبو نعيم في الحيلة عن ابن عباس قال: صليت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كسفت الشمس فلم أسمع له قراءة، قال ولهما رواية عن عائشة في الصحيحين قالت: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته، وللبخاري من حديث أسماء جهر عليه الصلاة والسلام في صلاة الكسوف، ورواه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ولفظه: صلى صلاة الكسوف فجهر فيها بالقراءة ثم قال: وإذا حصل التعارض وجب الترجيح بأن الأصل في صلاة النهار الإخفاء انتهى ما في المرقاة. قلت: أحاديث الجهر نصوص صريحة في الجهر، وأما حديث الباب أعني حديث سمرة فهو ليس بنص في السر ونفي الجهر: قال الحافظ بن تيمية في المنتقى: وهذا يحتمل أنه لم يسمعه لبعده لأن في رواية مبسوطة له: أتينا والمسجد قد امتلأ انتهى. وأما حديث ابن عباس بلفظ: صليت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ فهو لا يوازي أحاديث الجهر في الصحة، فلا شك في أن حديث الجهر مقدمة على حديث سمرة وحديث ابن عباس المذكورين والله تعالى أعلم. قوله: (وفي الباب عن عائشة) أخرجه أبو داود وفيه: فصلى بالناس فخزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة الحديث وفي سنده محمد بن إ سحاق وقد تفرد هو بهذا اللفظ. قوله: (حديث سمرة بن جندب حديث حسن صحيح) وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بعضهم مطولاً وبعضهم مختصراً، وقد صححه ابن حبان والحاكم أيضاً: قال الحافظ في التلخيص: وأعله ابن حزم بجهالة ثعلبة بن عباد راويه عن سمرة، وقد قال ابن المديني إنه مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات مع أنه لا راوي له إلا الأسود بن قيس انتهى. قوله: (وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا) أي إلى الإسرار بالقراءة في صلاة الكسوف (وهو قول الشافعي) وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك رحمه الله قال النووي في شرح مسلم: إن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة رحمه الله ومالك رحمه الله قال النووي في شرح مسلم: إن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة رحمه الله والليث بن سعد وجمهور الفقهاء أنه يسر في كسوف الشمس ويجهر في خسوف القمر انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال الأئمة الثلاثة يعني مالكاً والشافعي وأبا حنيفة: يسر في الشمس ويجهر في القمر انتهى. وقد عد الترمذي مالكاً من القائلين بالجهر بالقراءة في صلاة الكسوف فلعل من الإمام مالك روايتين والله تعالى أعلم. قال الحافظ في الفتح: واحتج الشافعي بقول ابن عباس قرأ نحواً من سورة البقرة لأنه لو جهر لم يحتج إلى تقدير. وتعقب باحتمال أن يكون بعيداً منه. لكن ذكر الشافعي تعليقاً عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فلم يسمع منه حرفاً، ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها داهية. وعلى تقدير ثبوتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى، وإن ثبت التعدد فيكون فعل ذلك لبيان الجواز، وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند أبي خزيمة والترمذي لم يسمع له صوتاً أنه إن ثبت لا يدل على نفي الجهر. قوله: (أخبرنا إبراهيم بن صدقة) البصري صدوق. قوله: (وجهر بالقراءة فيها) هذا نص صريح في الجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس، وفي رواية ابن حبان كسفت الشمس فصلى بهم أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات وجهر بالقراءة، وبهذه الرواية بطل ما قال النووي من أن رواية الجهر في خسوف القمر ورواية الإسرار في كسوف الشمس. وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، قال الحافظ في الفتح: وقد ورد الجهر فيها عن علي مرفوعاً وموقوفاً أخرجه ابن خزيمة وغيره، وقال به صاحباً أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية، وقال الطبري يخير بين الجهر والإسرار انتهى. قوله: (حديث حسن صحيح) وأخرجه الطحاوي. فإن قلت: روى هذا الحديث سفيان بن حسين عن الزهري وهو ثقة في غير الزهري فكيف يكون حديثه هذا بلفظ: وجهر بالقراءة فيها، حسناً صحيحاً. قلت: لم يتفرد هو برواية هذا الحديث بهذا اللفظ عن الزهري بل تابعه على ذلك سليمان بن كثير عند أحمد وعقيل عند الطحاوي وإسحاق بن راشد عند الدارقطني، قال الحافظ: وهذه طرق يعضد بعضها بعضاً يفيد مجموعها الجزم بذلك فلا معنى لتعليل من أعله بتضعيف سفيان بن حسين وغيره انتهى. قوله: (وبهذا الحديث يقول مالك وأحمد وإسحاق) وهذا القول هو الراجح المعول عليه.
(باب ما جاء في صلاة الخوف) أي أحكام الصلاة عند الخوف من الكفار، وأجمعوا على أن صلاة الخوف ثابتة الحكم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي يوسف أنها مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم}. وأجيب بأنه قيد واقعي نحو قوله: (إن خفتم) في صلاة المسافر، ثم اتفقوا على أن جميع الصفات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف معتد بها، وإنما الخلاف بينهم في الترجيح. وما أحسن قول أحمد لا حرج على من صلى بواحدة مما صح عنه عليه الصلاة والسلام، كذا في المرقاة، وذكر الحافظ ابن تيمية في منهاج السنة وغيره: أن الاختلاف الوارد فيه ليس اختلاف تضاد بل اختلاف وسعة وتخيير انتهى. 560- حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبي الشّوَاربِ، حدثنا يزيدُ بن زُرَيعٍ حدثنا مَعْمَرٌ عن الزُهريّ عن سالمٍ عن أبيهِ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةَ الخوفِ بإحدى الطائِفَتَيْنِ ركعةً والطائِفةُ الأخْرَى مُواجهَةُ العَدُوّ ثم انصَرَفوا فقاموا في مَقَامِ أولئكَ، وجاءَ أولئِكَ فصلّى بهمْ ركعةً أُخرى، ثم سَلّم عليهم فقامَ هؤلاءِ فَقَضَوا ركعتَهم، وقَامَ هؤلاءِ فَقَضَوْا ركعتَهُمْ". (قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح) (وقد روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر: مثل هذا). (قال): وفي البابِ عن جابر وحُذَيْفة وزيدِ بنِ ثابتٍ وابن عباسٍ وأبي هريرةٍ وابن مسعودٍ وسهلِ بن أبي حَثْمَةَ وأبي عيّاشٍ الزُرَقيّ (واسمُه زيدُ بنُ صامتٍ) وأبي بَكرَةَ. قال أبو عيسى: وقد ذهبَ مالكُ بن أنسٍ في صَلاةِ الخوفِ إلى حَديثِ سَهْلِ بن أبي حَثْمَةَ وهو قولُ الشافعي. وقال أحمدُ: قد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلاةُ الخوفِ على أوجهٍ، وما أعْلَمُ في هذا البابِ إلا حديثاً صحِيحاً، وأَخْتارُ حديثَ سَهْلِ بن أبي حَثْمةَ. وهكذا قال إسحاقُ بنُ إبراهيمَ قال: ثبتَت الرواياتُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاةِ الخوفِ، ورأى أن كُلّ ما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صَلاةِ الخوفِ فهو جائز وهذا على قَدْرِ الخوفِ. قال إسحاقُ: وَلَسْنَا نختَارُ حديثَ سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ على غيرهِ منِ الرواياتِ. 561- حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ حدثنا يحيى بن سَعيدٍ القطّان حدثنا يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريّ عن القاسِم بن محمدٍ عن صالح بن خَوّات بن جُبَيْر عن سهلِ بن أبي حَثْمَةَ أنه قال في صَلاةِ الخوفِ، قال: "يقومُ الإمامُ مستقبلَ القِبْلَةِ وتقومُ طائفةٌ منهم مَعهُ، وطائفةٌ من قِبَلِ العَدُوّ ووجُوهُهُمْ إلى العدوّ، فيركَعُ بهم ركعةً، ويركعون لأنفُسهِم، ويسجُدون لأنفسِهِمْ سجْدتَيْنِ في مكانِهم، ثم يَذْهَبُونَ إلى مَقَامِ أولئكَ ويجيءُ أولئكَ فيركَعُ بهم ركعةً ويسجدُ بهم سجْدَتَيْنِ فهي له ثِنْتَانِ ولَهُمْ واحِدَةٌ ثم يركَعُون ركعةً ويسجُدونَ سجْدَتَيْن". 562- (قال محمد بن عيسى): قال محمدُ بن بَشّار: سألتُ يحيى بن سعيدٍ عن هذا الحديثِ فحدّثَنِي عن شُعْبَةَ عن عبدِ الرحمَن بن القاسِم عن أبيهِ عن صالحِ بن خَوّاتٍ عن سهلِ بن أبي حَثْمَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثلِ حديثِ يحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ وقال لي يحيى: اكتُبْهُ إلى جَنْبِه، ولَسْتُ أحفظُ الحديثَ ولكنهُ مِثْلُ حديثِ يحيى بن سَعِيدٍ (الأنصاريّ). قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لم يرفَعْهُ يحيى بنُ سعيدٍ الأنصارِيّ عن القاسِم بن محمد، وهكذا رَوَاهُ أصحابُ يحيى بنِ سعيدٍ الأنصارِي موقوفاً، ورَفَعهُ شُعْبَةُ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ القاسِمِ (بنِ محمدٍ). 563- ورَوَى مالكُ بن أنسٍ عن يزيدَ بن رُوْمَانَ عن صالحِ بنِ خَوّاتٍ عن من صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الخوفِ فذكَرَ نحوَه. قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وبه يقولُ مالكٌ والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقٌ. ورُوِيَ عن غيرِ واحِدٍ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بإحدَى الطائِفَتَيْنِ ركْعَةً ركْعةً فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ركعَتَانِ ولهم ركْعةٌ ركْعةٌ". (قال أبو عيسى): أبو عياش الزّرقيّ اسمه: زيد بن صامتٍ. قوله: (عن سالم عن أبيه). أي عبد الله بن عمر. قوله: (والطائفة الأخرى مواجهة العدو). وفي رواية البخاري فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو (ثم انصرفوا) أي الطائفة الأولى التى صلت معه صلى الله عليه وسلم (فقاموا في مقام أولئك)، أي في مقام الطائفة الثانية التي لم تصل (ثم سلم) أي النبي صلى الله عليه وسلم (عليهم) أي على الطائفة الثانية (فقام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم) وفي رواية البخاري فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين. قال الحافظ في فتح الباري: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا. وظاهر أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه: ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا انتهى. وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها ووقع في الرافعي تبعاً لغيره من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا، ولم نقف على ذلك في شيء من الطرق، وبهذه الكيفية أخذ الحنفية، واختار في حديث ابن مسعود أشهب والأوزاعي وهي الموافقة لحديث سهل بن أبي حثمة من رواية مالك عن يحيى بن سعيد انتهى كلام الحافظ. وقال القاري في المرقاة في شرح قوله فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين، تفصيله أن الطائفة الثانية ذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الأولى إلى مكانهم وأتموا صلاتهم منفردين وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الثانية وأتموا منفردين وسلموا كما ذكره بعض الشراح من علمائنا، قال ابن الملك كذا قيل وبهذا أخذ أبو حنيفة لكن الحديث لم يشعر بذلك انتهى. وهو كذلك، لكن قال ابن الهمام: ولا يخفى أن هذا الحديث إنما يدل على بعض ما ذهب إليه أبو حنيفة وهو مشي الطائفة الأولى وإتمام الطائفة الثانية في مكانها من خلف الإمام وهو أقل تغييراً. وقد دل على تمام ما ذهب إليه ما هو موقوف على ابن عباس من رواية أبي حنيفة، ذكره محمد في كتاب الآثار وساق إسناد الإمام، ولا يخفى، أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه، فالموقوف فيه كالمرفوع انتهى ما في المرقاة. قلت: قال محمد في كتاب الآثار: أخبرنا، أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في صلاة الخوف قال إذا صلى الإمام بأصحابه فلتقم طائفة منهم مع الإمام وطائفة بإزاء العدو فيصلي الإمام بالطائفة الذين معه ركعة ثم تنصرف الطائفة الذين صلوا مع الإمام من غير أن يتكلموا حتى يقوموا في مقام أصحابهم وتأتي الطائفة الأولى حتى يصلوا ركعة وحدانا ثم ينصرفون فيقومون مقام أصحابهم وتأتي الطائفة الأخرى حتى يقضوا الركعة التي بقيت عليهم وحدانا. قال محمد أخبرنا أبو حنيفة حدثنا الحارث عن عبد الرحمَن عن ابن عباس مثل ذلك قال محمد وبهذا كله نأخذ انتهى ما في كتاب الآثار. قلت: الحارث هذا إن كان هو الأعور فقد كذبه الشعبي وابن المديني وإن كان غيره فلا أدري من هو. قوله: (وفي الباب عن جابر وحذيفة وزيد بن ثابت وابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود وسهل بن أبي حثمة وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن ثابت وأبي بكرة) أما حديث جابر فأخرجه الشيخان. وأما حديث حذيفة فأخرجه أبو داود والنسائي. وأما حديث زيد بن ثابت فأخرجه النسائي. وأما حديث ابن عباس فأخرجه النسائي. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أبو داود. وأما حديث سهل بن أبي حثمة فأخرجه الشيخان. وأما حديث أبي عياش الزريق فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. وأما حديث أبي بكرة فأخرجه أحمد وأبو داود النسائي. قلت: وفي الباب أيضاً عن علي وعائشة وخوات بن جبير وأبي موسى الأشعري. أما حديث علي فأخرجه البزار. وأما حديث عائشة فأخرجه أبو داود. وأما حديث خوات بن جبير فأخرجه أبو مندة في معرفة الصحابة وأما حديث أبي موسى فأخرجه ابن عبد البر في التمهيد. قوله: (وقد ذهب مالك بن أنس في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة) الاَتي، وفي هذا الباب قال مالك في الموطأ: وحديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات أحب ما سمعت إلي في صلاة الخوف انتهى. والمراد بحديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات هو حديث سهل بن أبي حثمة (وهو قول الشافعي إلخ). قال الحافظ في الفتح: قد ورد في كيفية صلاة الخوف صفات كثيرة ورجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه. وعن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة وكذا رجحه الشافعي ولم يختر إسحاق شيئاً على شيء، وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر وسرد ثمانية أوجه وكذا ابن حبان في صحيحه وزاد تاسعاً.. وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجهاً وبينها في جزء مفرد وقال ابن العربي في القبس: جاء فيها أربعة عشر وجهاً وبينها في جزء مفرد ولم يبينها، وقال النووي في شرح مسلم ولم يبينها أيضاً وقد بينها شيخنا أبو الفضل في شرح الترمذي وزاد وجهاً آخر فصارت سبعة عشر وجها لكن يمكن أن تتداخل. قال صاحب الهدى: أصولها ست صفات بلغها بعضهم أكثر وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهاً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من اختلاف الرواة انتهى، وهذا هو المعتمد وإليه أشار شيخنا بقوله: يمكن تداخلها انتهى ما في الفتح (وما أعلم في هذا الباب إلا حديثاً صحيحاً). قال الحافظ في التلخيص: ونقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: ما أعلم في هذا الباب حديثاً إلا صحيحاً. قوله: (حديث ابن عمر حديث حسن صحيح). أخرجه الأئمة الستة. قوله: (عن صالح بن خوات). بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو وبالتاء الفوقانية أنصاري مدني تابعي مشهور غزير الحديث سمع أباه وسهل بن أبي حثمة (عن سهل بن أبي حثمة) الأنصاري الخزرجي المد ثلاث من الهجرة وله أحاديث مات في خلافة معاوية. قوله: (فيركع بهم ركعة ويركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون لأنفسهم سجدتين في مكانهم ثم يذهبون في مقام أولئك) وفي رواية مالك وفي الموطأ فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذي معه ثم يقوم فإذا استوى قائماً ثبت وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم فيكونون وجاه العدو (ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد بهم سجدتين) أي ثم يسلم وحده (فهي) أي فهذه الصلاة (له) صلى الله عليه وسلم ثنتان أي ركعتان (ولهم) أي لكل واحد من الطائفتين (واحدة) أي ركعة واحدة (ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين) أي ثم يسلمون. وفي رواية مالك في الموطأ: ثم يقبل الاَخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم ويسجد بهم ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الثانية ثم يسلمون. قوله: (قال محمد بن بشار سألت يحيى بن سعيد) أي القطان (عن هذا الحديث) أي هل بلغك هذا الحديث مرفوعاً أم لا (فحدثني) أي يحيى القطان (بمثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري) المذكور الموقوف (وقال لي اكتبه إلى جنبه) هذا مقول محمد بن بشار أي وقال لي يحيى بن سعيد القطان: اكتب الحديث الذي رويته عن شعبة مرفوعاً إلى جنب الحديث الذي رويته عن يحيى القطان لست أحفظ لفظ الحديث الذي رويته عن شعبة مرفوعاً (لكنه) أي لكن الحديث المرفوع (مثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري) الموقوف المذكور. تنبيه: إعلم أن بعض العلماء الحنفية قد فسر قوله: وقال لي أكتبه إلخ هكذا قوله وقال لي أكتبه مقولة يحيى أن قال لي شعبة أكتب هذا الحديث الذي رويت لك إلى جنب الحديث الذي رويت عن يحيى بن سعيد الأنصاري انتهى، وفي هذا نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل. قوله: (وهذا حديث حسن صحيح) أي هذا الحديث الموقوف الذي رواه يحيى بن سعيد الأنصاري حسن صحيح وأخرجه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم أيضاً. قوله: (وبه) أي بحديث سهل بن أبي حثمة (يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق) وأخذ أبو حنيفة بحديث عبد الله بن عمر المذكور كما تقدم بيان ذلك وروى عن غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ركعة إلخ أخرج روايات هؤلاء أبو داود في سننه من شاء الاطلاع عليه فليرجع إليه. وأخرج الشيخان عن جابر قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع الحديث، وفيه فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان. ولا اختلاف بين هذا وبين ما روى أنه صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ركعة لاختلاف القصتين.
(باب ما جاء في سجود القرآن) أي سجدة التلاوة وهي أربع عشرة سجدات معروفة عند أبي حنيفة والشافعي، غير أن الشافعي عد منها السجدة الثانية من سورة الحج دون سجدة ص، وقال أبو حنيفة بالعكس، هذا هو المشهور. وقال الترمذي: رأى بعض أهل العلم أن يسجد في ص وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق انتهى. فعلى هذا يكون عند الشافعي وأحمد خمس عشرة سجدة وهو رواية عن مالك، كذا في المحلي شرح الموطأ للشيخ سلام الله. وقال النووي في شرح مسلم: قد أجمع العلماء على إثبات سجود التلاوة وهو عندنا وعند الجمهور سنة ليس بواجب، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه واجب ليس بفرض على اصطلاحه في الفرق بين الواجب والفرض، وهو سنة للقارئ والمستمع، ويستحب أيضاً للسامع الذي لا يسمع لكن لا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع، ويستحب أيضاً للسامع الذي لا يسمع لكن لا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع المصغي انتهى كلام النووي. وقال القاري في المرقاة: هي سجدة منفردة منوية محفوفة بين تكبيرتين مشروط فيها ما شرط للصلاة من غير رفع يد وقيام وتشهد وتسليم وتجب على القارئ والسامع ولو لم يكن مستمعاً عند أبي حنيفة وأصحابه انتهى كلام القاري. 564- حدثنا سُفيانُ بن وكِيع حدثنا عبدُ الله بنُ وَهْبٍ عن عَمرِو بن الحارِثِ عن سَعيدِ بنِ أبي هِلالٍ عن عُمَرَ الدّمَشْقيّ عن أمّ الدّرْدَاءِ عن أبي الدّرْدَاءِ قال "سَجَدْتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً منها التي في النّجْمِ". 565- حدثنا عبدُ الله بنُ عبدِ الرحمَن، أخبرنا عبدُ الله بنُ صَالح حدثنا اللّيثُ بن سَعدٍ عن خالدِ بنِ يَزيدَ عن سَعيدِ بنِ أبي هِلال عن عُمَر وهو ابنُ حَيّانَ الدّمَشْقيّ قال: سَمِعْتُ مخْبِراً يُخْبِر عن أمّ الدَرْداءِ عن أبي الدّرداءِ عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه (بلفظ). (قال) وفي البابِ عن علي وابنِ عباسٍ وأبي هُريرةَ وابنِ مسعودٍ وزيدِ بنِ ثابتٍ وَعمرو بنِ العاصِ. قال أبو عيسى: حديثُ أبي الدرْداءِ حديثٌ غريبٌ لا نعرِفُهُ إلاّ مِن حديثِ سعيدِ بن أبي هِلالٍ عن عُمَرَ الدّمَشْقيّ. وهذا أصحّ من حديثِ سُفيانَ بنِ وكيعٍ عن عبدِ الله بن وَهبٍ. قوله: (عن عمر الدمشقي) هو ابن حيان الدمشقي وهو مجهول كما صرح به الحافظ في التقريب. قوله: (سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة إلخ) هذا لا ينافي الزيادة غايته أن أبا الدرداء سجد معه إحدى عشرة سجدة ولم يحضر في غيرها قاله صاحب إنجاح الحاجة. قلت: ومع هذا فهو حديث ضعيف فإن في سنده عمر الدمشقي وهو مجهول كما عرفت، وفي طريقه الثاني الاَتي قال عمر الدمشقي سمعت مخبراً يخبرني فهذا المخبر أيضاً مجهول. وقد صرح أبو داود بتضعيفه حيث قال في سننه: روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة وإسناده واه انتهى كلام أبي داود. وروى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال الحافظ في التلخيص حسنه المنذري والنووي وضعفه عبد الحق وابن القطان وفيه عبد الله بن منين وهو مجهول، والراوي عنه الحارث بن سعيد العتقي وهو لا يعرف أيضاً. وقال ابن ماكولا ليس له غير هذا الحديث انتهى كلام الحافظ. قلت: قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن منين بنون مصغر اليحصبي المصري وثقه يعقوب بن سفيان انتهى. وقال في ترجمة الحارث بن سعيد العتقي أنه مقبول، فالظاهر أن هذا الحديث حسن، وفيه دليل على أن مواضع السجود خمسة عشر موضعاً، وإليه ذهب أحمد والليث وإسحاق وابن وهب وطائفة من أهل العلم. قال الطيبي: واختلفوا في عدة سجدات القرآن فقال أحمد: خمس عشرة أخذاً بظاهر حديث عمرو بن العاص فأدخل سجدة ص فيها. وقال الشافعي أربع عشرة سجدة منها ثنتان في الحج وثلاث في المفصل وليست سجدة ص منهن بل هي سجدة شكر. وقال أبو حنيفة: أربع عشرة فأسقط الثانية من الحج وأثبت سجدة ص. وقال مالك: إحدى عشرة فأسقط سجدة ص وسجدات المفصل انتهى كلام الطيبي. قلت: الظاهر هو ما ذهب إليه الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أيضاً على ما حكى الترمذي وهو رواية عن مالك وهو مذهب الليث وغيره كما عرفت. فائدة: إعلم أن أول مواضع السجود خاتمة الأعراف، وثانيها عند قوله في الرعد {بالغدو والاَصال}، وثالثها عند قوله في النحل {ويفعلون ما يؤمرون}، ورابعها عند قوله في بني إسرائيل {ويزيدهم خشوعاً}، وخامسها عند قوله في مريم {خروا سجداً وبكياً}، وسادسها عند قوله في الحج {إن الله يفعل ما يشاء}، وسابعها عند قوله في الفرقان {وزادهم نفوراً}، وثامنها عند قوله في النمل {رب العرش العظيم}، وتاسعها عند قوله في {ألم تنزيل وهم لا يستكبرون}، وعاشرها عند قوله في ص {وخر راكعاً} وأناب، والحادي عشر عند قوله في حم السجدة {إن كنتم إياه تعبدون}. وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور عند قوله وهم لا يسأمون، والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر سجدات المفصل، والخامس عشر السجدة الثانية في الحج كذا في النيل. قوله: (وفي الباب عن علي وابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمرو بن العاص) أما حديث علي فأخرجه الطبراني في الأوسط وسنده ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الصبح في تنزيل السجدة، وأخرج البيهقي عنه بلفظ عزائم السجود أربع {ألم تنزيل للسجدة}، {وحم السجدة}، {واقرأ باسم ربك}، والنجم. كذا في شرح السراج. وأما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري والترمذي. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم والترمذي. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الشيخان. وأما حديث زيد بن ثابت فأخرجه أيضاً الشيخان. وأما حديث عمرو بن العاص فأخرجه أبو داود وابن ماجه وتقدم لفظه. قوله: (حديث أبي الدرداء حديث غريب) وهو ضعيف كما عرفت (لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن أبي هلال عن عمر الدمشقي) وهو مجهول كما عرفت. وقال الحافظ في ترجمة سعيد بن أبي هلال: صدوق لم أر لأبن حزم في تضعيفه سلفاً. إلا أن الساجي حكى عن أحمد أنه اختلط. قوله: (وهذا أصح من حديث سفيان بن وكيع) أي حديث عبد الله بن عبد الرحمَن أرجح من حديث سفيان بن وكيع وضعفه أقل من ضعفه، فإن سفيان بن وكيع متكلم فيه. قال الحافظ في التقريب: كان صدوقاً إلا أنه ابتلى بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه انتهى. وقال الخزرجي في الخلاصة قال البخاري يتكلمون فيه.
566- حدثنا نصرُ بنُ علي حدثنا عيسى بنُ يونُسَ عن الأعمَشِ عن مُجَاهِد قال: كُنّا عندَ ابنِ عُمَر فقال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "ايذَنُوا للنّسَاءِ بالليلِ إلى المسَاجِدِ" فقال ابنُهُ: والله لا نَأذَنُ لَهُنَ يَتّخِذْنَهُ دَغلاً، فقال: فعلَ الله بِكَ وفَعَلَ، أقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "وتقولُ لا نأذَنُ (لهنّ)؟". (قال): وفي البابِ عن أبي هُرَيرةَ وزَينَبَ امرأةِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ وزيدِ بنِ خالد. قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. (قوله أخبرنا: عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي بفتح المهملة وكسر الموحدة أخو إسرائيل كوفي نزل الشام من ابطا ثقة مأمون. قوله: (ايذنوا بصيغة الأمر من الإذن) وكأنه أصله إءذنوا فأبدلت الهمزة الثانية بالياء (بالليل) خص الليل بالذكر لما فيه من الستر بالظلمة (فقال ابنه) أي بلال أو واقد. قال المنذري وابن عبد الله بن عمر هذا بلال بن عبد الله بن عمر جاء مبيناً في صحيح مسلم وغيره، وقيل هو ابنه واقد بن عبد الله بن عمر ذكره مسلم في صحيحه أيضاً. وقد حقق الحافظ في الفتح أن الراجح أن صاحب القصة بلال (والله لا نأذن لهن) أي للخروج إلى المساجد (يتخذنه دغلاً) بفتح المهملة ثم المعجمة وأصله الشجن الملتف ثم استعمل في المخادعة لكون المخادع يلف في ضميره أمراً ويظهر غيره، وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت وحملته على ذلك الغيرة ابن عمر (فعل الله بك وفعل) وفي رواية بلال عند مسلم: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته يسبه مثله قط. وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات، وفي رواية زائدة عن الأعمش فانتهره وقال أف لك وإنما أنكر عليه ابن عمر بمخالفة الحديث. وأخذ منه تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده وان كان كبيراً إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران. فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد فما كلمه عبد الله حتى مات. وهذا إن كان محفوظاً يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة كذا في الفتح. قوله: (وفي الباب عن أبي هريرة وزينب امرأة عبد الله بن مسعود وزيد بن خالد) أما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد وأبو داود مرفوعاً بلفظ: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة. وأما حديث زينب فأخرجه مسلم بلفظ: إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً. وأما حديث زيد بن خالد فأخرجه ابن حبان بمثل حديث أبي هريرة. قوله: (حديث ابن عمر حديث حسن صحيح) وأخرجه البخاري مختصراً ومسلم مطولاً. فائدة: اعلم أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، ومع هذا لو استأذنت للصلاة إلى المسجد لا تمنع بل تؤذن لكن لا مطلقاً بل بشروط قد وردت في الأحاديث. قال النووي في شرح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، هذا وشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث وهي أن لا تكون مطيبة ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها ولا ثيات فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها، وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها. وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على التنزيه إذا كانت المرأة ذات زوج أو سيد ووجدت الشروط المذكورة فإن لم يكن لها زوج ولا سيد حرم المنع إذا وجدت الشروط. انتهى كلام النووي. وقال الحافظ في الفتح: قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث عام في النساء إلا أن الفقهاء خصوه بشروط منها أن لا تطيب وهو في بعض الروايات: وليخرجن تفلات، أن غير متطيبات، ولمسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود: إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً، قال ويلحق بالطيب ما في معناه لأن سبب المنع منه ما فيه من تحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال. وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر إلا إن أخذ الخوف عليها من جهتها لأنها إذا عريت مما ذكر وكانت مستترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك بالليل. وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث وغيره ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد. فعند أبي داود عن ابن عمر: لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن، وصححه ابن خزيمة، وعند أحمد والطبراني عن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: "قد علمت وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة"، وإسناد أحمد حسن انتهى ما في الفتح مختصراً.
567- حدثنا محمدُ بن بَشّار حدثنا يحيى بنُ سعيد عن سُفيانَ عن مَنْصورٍ عن ربْعيّ بن حِرَاشٍ عن طارقِ بن عبدِ الله المُحارِبيّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذا كنتَ في الصلاةِ فلا تَبْزُقْ عن يَمينِكَ، ولكن خَلْفَكَ أو تِلْقَاءَ شِمَالِكَ، أو تَحْتَ قَدَمِكَ اليُسرَى". (قال): وفي البابِ عن أبي سعيدٍ وابنِ عُمَر وأنسٍ وأبي هرَيْرةَ. قال أبو عيسى: (و) حديثُ طارقٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ. (قال): وسَمِعْتُ الجَارُودَ يقولُ: سَمِعْتُ وكيعاً يقولُ: لَمْ يكذِبْ رِبْعيّ بنُ حِرَاشٍ في الإسلامِ كَذْبَةً. (قال): وقال عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي أثْبَتُ أهلِ الكوفَةِ منصورُ بنُ المُعْتَمِرِ. 568- حدثنا قُتَيْبة حدثنا أبو عَوَانَةَ عن قَتَادَةَ عن أنسِ بن مالكٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "البُزَاقُ في المسْجِدِ خَطِيئَةٌ وكَفّارَتها دَفْنُها". قال (أبو عيسى): (و) هذا حديثٌ (حسنٌ) صحيحٌ. قوله: (أخبرنا يحيى بن سعيد) هو القطان (عن سفيان) هو الثوري (عن منصور) هو ابن المعتمر الكوفي ثقة ثبت (عن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة (بن حراش) بكسر المهملة وآخره معجمة الكوفي ثقه عابد مخضرم. قوله: (إذا كنت في الصلاة فلا تبزق عن يمينك) وفي حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه ملكاً (ولكن خلفك) أي إذا لم يكن خلفك أحد يصلي (أو تلقاء شمالك) أي جانب شمالك. قال الخطابي إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من الجهتين لكن تحت قدمه أو ثوبه. قال الحافظ في الفتح: وفي حديث طارق المحاربي عند أبي داود ما يرشد لذلك فإنه قال فيه أو تلقاء شمالك إن كان فارغاً وإلا فهكذا وبزق تحت رجله ودلك، ولعبد الرزاق من طريق عطاء عن أبي هريرة نحوه، ولو كان تحت رجلة مثلاً شيء مبسوط أو نحوه تعين الثوب انتهى (أو تحت قدمك اليسرى) وفي حديث أبي هريرة عند البخاري أو تحت قدمه فيدفنه. قال النووي في الرياض: المراد بدفنها ما إذا كان المسجد ترابياً أو رملياً، وأما إذا كان مبلطاً مثلاً فدلكها عليه بشيء مثلاً فليس ذلك بدفن بل زيادة في التقذير انتهى. قال الحافظ في الفتح: لكن إذا لم يبق لها أثر البتة فلا مانع، وعليه يحمل قوله في حديث عبد الله بن الشخير: ثم دلكه بنعله انتهى. قوله: (وفي الباب عن أبي سعيد وابن عمر وأنس وأبي هريرة) أما حديث أبي سعيد فأخرجه الشيخان عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ثخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فختها وقال: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى. وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقاً في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس فقال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله سبحانه قبل وجهه إذا صلى". وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان مرفوعاً: البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضاً الشيخان مرفوعاً: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها. قوله: (حديث طارق حديث حسن صحيح) وأخرجه أبو داود وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه.
قوله: (البزاق في المسجد خطيئة) قال النووي: اعلم أن البزاق في المسجد خطيئة مطلقاً سواء احتاج إلى البزاق أو لم يحتج بل يبزق في ثوبه فإن بزق في المسجد فقد ارتكب الخطيئة وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البزاق، هذا هو الصواب: أن البزاق خطيئة كما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله العلماء، وللقاضي عياض فيه كلام باطل حاصله أن البزاق ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فليس بخطيئة، واستدل له بأشياء باطلة فقوله هذا غلط صريح مخالف لنفس الحديث انتهى. قال الحافظ في الفتح: حاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا وهما قوله البزاق في المسجد خطيئة، وقوله وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فالنووي يجعل الأول عاماً ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاماً ويخص الأول بمن لم يرد دفنها، وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في التنقيب والقرطبي في المفهم وغيرهما، ويشهد لهم ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعاً قال: من تنخم في المسجد فلم يدفنه فسيئة وإن دفنه فحسنة فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن. ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعاً قال: وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخامة في المسجد لا تدفن، قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل به ويتركها غير مدفونة انتهى، قال وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر وهو تفصيل حسن انتهى. قوله: (وكفارتها دفنها) قال النووي: معناه إن ارتكب هذه الخطيئة فعليه تكفيرها كما أن الزنا والخمر وقتل الصيد في الإحرام محرمات وخطايا وإذا ارتكبها فعليه عقوبتها. واختلف العلماء في المراد بدفنها. فالجمهور قالوا المراد دفنها في تراب المسجد ورمله وحصاته إن كان فيه تراب أو رمل أو حصاة ونحوها وإلا فيخرجها انتهى. تنبيه: كان للترمذي أن يورد باب خروج النساء إلى المساجد، وباب كراهية البزاق في المسجد قبل أبواب سجود القرآن أو بعدها، وأما إيرادهما في أثنائها فليس مما ينبغي.
{اقرأ باسمِ رَبّكَ الذِي خَلَقَ} وفي {إذا السّماءُ انْشَقّت}. 569- حدثنا قُتَيْبةُ (بنُ سعيدٍ) حدثنا سفيانُ بن عُيَينةَ عن أيوبَ بنِ موسى عن عَطاءِ بن مِيناءَ عن أبي هريرةَ قال "سَجَدْنَا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في {اقرأ باسمِ رَبّكَ} و {إذا السّمَاءُ انشَقّتْ}". 570- حدثنا قُتَيْبَةَ حدثنا سفيانُ (بن عيينة) عن يحيى بن سعيدٍ عن أبي بكرِ بن محمدِ (هو) ابن عَمرِو بن حَزْمٍ عن عُمَر بنِ عبد العزيزِ عن أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمَنِ بنِ الحارثِ بن هِشَام عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَه. قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ السجودَ في {إذا السّماءُ انشَقّت} و {اقرأ باسمِ رَبّكَ}. وفي (هذا) الحديثِ أربعة مِنَ (التّابِعينَ بعضُهم عن بعضٍ). قوله: (عن عطاء بن ميناء) بكسر الميم وسكون التحتية وبنون وبمد ويقصر كذا في المغنى قال الحافظ صدوق من الثالثة (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقرأ باسم ربك وإذا السماء انشقت) هما من المفصل فالحديث حجة على مالك رحمه الله. قوله: (وفي الحديث) أي في إسناده (أربعة من التابعين) من يحيى بن سعيد إلى أبي بكر بن عبد الرحمَن. قوله: (حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح) أخرجه الجماعة إلا البخاري. قوله: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم يرون السجود في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك) وهذا هو الحق والصواب يدل عليه حديث الباب وحديث عمرو بن العاص المتقدم.
571- حدثنا هارونُ بن عبدِ الله البزارُ (البغدادي) حدثنا عبدُ الصّمد بنُ عبدِ الوَارِثِ حدثنا أبي عن أيوبَ عن عِكْرَمَةَ عن ابن عباس قال "سَجَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيها يعْنِي النّجْمَ والمسلِمونَ والمشركُونَ والجِنّ والإنسُ". (قال): وفي البابِ عن ابنِ مسعودٍ وأبي هريرةَ. قال أبو عيسى: حديثُ ابن عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ السجودَ في سُورةِ النّجْمِ. وقال بعضُ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهِمْ: ليسَ في المفَصّل سَجْدَة. وهو قولُ مالِكِ بن أنسٍ. والقولُ الأولُ أصَحُ. وبه يقولُ الثوريّ وابنُ المبارَكِ والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ. (وفي البابِ عن ابن مسعود، وأبي هريرة). قوله: (حدثنا هارون بن عبد الله البزاز) بالموحدة والزايين المنقوطتين الحال أبو موسى ثقة من العاشرة (أخبرنا أبي) أي عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري ثقة ثبت، قال الذهبي أجمع المسلمون على الاحتجاج به (عن أيوب) هو السختياني. قوله: (سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يعني النجم والمسلمون والمشركون والجن والإنس) هذه اللامات في هذه الأربعة للعهد أي الذين كانوا عنده وهذا كان بمكة في المسجد الحرام. كذا في المرقاة نقلاً عن ميرك. وقال النووي في شرح مسلم: قال القاضي عياض رحمه الله وكان سبب سجودهم فيما قال ابن مسعود رضي الله عنه أنها أول سجدة نزلت، قال القاضي: وأما ما يرويه الإخباريون والمفسرون أن سبب ذلك ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم فباطل لا يصح فيه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لأن مدح إله غير الله تعالى كفر ولا يصح نسبة ذلك إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يقوله الشيطان على لسانه، ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك انتهى. وقال الحافظ في فتح الباري: قال الكرماني: سجد المشركون مع المسلمين لأنها أول سجدة نزلت فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم. انتهى كلام الكرماني. قال الحافظ: والاحتمالات الثلاثة فيها نظر، والأول منها لعياض، والثاني يخالفه سياق ابن مسعود حيث زاد فيه: إن الذي استثناه منهم أخذ كفاً من حصى فوضع جبهته عليه فإن ذلك ظاهر في القصد، والثالث أبعد إذ المسلمون حينئذ هم الذين كانوا خائفين من المشركين لا العكس، انتهى كلام الحافظ. قال الكرماني: وما قيل من أن ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحة له عقلاً ولا نقلاً انتهى كلام الكرماني. قال الحافظ: ومن تأمل ما أوردته من ذلك في تفسير سورة الحج عرف وجه الصواب في هذه المسألة بحمد الله تعالى انتهى. قلت: قال الله تعالى في سورة الحج: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد}، قال الإمام البخاري في صحيحه: قال ابن عباس في أمنيته إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم آياته، ويقال أمنيته قراءته الأماني يقرأون ولا يكتبون. قال الحافظ في الفتح: وعلى تأويل ابن عباس هذا يحمل ما جاء عن سعيد بن جبير وقد أخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فلما بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا فنزلت هذه الاَية. ثم ذكر الحافظ طرقاً عديدة لهذا الحديث ثم قال: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين: أحدهما: ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبد الرحمَن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه، والثاني ما أخرجه أيضاً من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية، ثم رد الحافظ على من قال إن هذه القصة لا أصل لها، وأن كل ما روى فيها فهو باطل، ثم قال إن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً. قال وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض. قال وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهن لترتجي فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته. ثم ذكر تأويلات للعلماء ورد على كل واحد منها إلا تأويلاً واحداً فأقره وجعله أحسن الوجوه فقال وقد سلك العلماء في ذلك مسالك: فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة وهو لا يشعر، فلما علم ذلك أحكم الله آياته. قال ورده عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في النوم. وقيل إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره، ورده ابن العربي بقوله تعالى حكاية عن الشيطان: (وما كان لي عليكم من سلطان) الاَية، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة في طاعة، وهكذا ذكر الحافظ تأويلات أخر ورد عليها ثم قال: وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها، قال وهذا أحسن الوجوه انتهى كلام الحافظ ملخصاً. قلت: في هذا التأويل أيضاً كلام كما لا يخفى على المتأمل. وأما قوله إن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك أن لها أصلاً ففيه أن هذا ليس قانوناً كلياً. قال الزيلعي في نصب الراية: وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه وهو حديث ضعيف كحديث الطير، وحديث الحاجم والمحجوم، وحديث من كنت مولاه فعلى مولاه، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً، انتهى كلام الزيلعي فتأمل وتفكر. تنبيه: الغرانيق بفتح الغين المعجمة طيور الماء، شبهت الأصنام المعتقدون فيها أنها تشفع لهم بالطيور تعلو في السماء وترتفع، وقال العيني في شرح البخاري: وقد فسر الكلبي في روايته الغرانيق العلى بالملائكة لا بآلهة المشركين كما يقولون: إن الملائكة بنات الله وكذبوا على الله ورد الله ذلك عليهم بقوله {ألكم الذكر وله الأنثى} فعلى هذا فلعله كان قرآناً ثم نسخ لتوهم المشركين بذلك مدح آلهتم، انتهى كلام العيني. قلت: قوله فعلى هذا فلعله كان قرآناً ثم نسخ فيه نظر، فإن الروايات المروية في هذه القصة صريحة في أن هذه الكلمات ألقاها الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ولو سلم أن قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}، نزل في هذه القصة فقوله تعالى هذا أيضاً صريح في أن ملقي هذه الكلمات على لسان النبي صلى الله عليه وسلم هو الشيطان قال العيني في شرح البخاري: فأخبر الله في هذه الاَية أن سنته في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نص في أن الشيطان زاده في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله انتهى كلام العيني. فكيف يصح أن يقال إن هذه الكلمات أعنى تلك الغرانيق العلى إلخ. كانت قرآناً ثم نسخت فتأمل. تنبيه آخر: قال صاحب العرف الشذي: التحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا اللفظ يعني تلك الغرانيق العلى إلخ بطوعه وأنه آية من القرآن نسخ تلاوتها قال: والمشار إليه بتلك الغرانيق الملائكة قال: وأتى العيني والحافظ بروايتين صحيحتين مرفوعتين على هذا القول الصحيح انتهى كلامه. قلت: كلامه هذا مردود عليه، فإنه لم يثبت برواية مرفوعة صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا اللفظ بطوعه وأنه آية من القرآن نسخ تلاوتها. وأما قوله: وأتى العيني والحافظ بروايتين صحيحتين مرفوعتين على هذا القول الصحيح فخطأ فاحش ووهم قبيح، فإنه لم يأت العيني ولا الحافظ برواية مرفوعة صحيحة على هذا القول فضلاً عن روايتين مرفوعتين صحيحتين.
(باب ما جاء من لم يسجد فيه) أي في النجم. 572- حدثنا يَحيى بنُ موسى حدثنا وكيعٌ عن ابنِ أبي ذِئب عن يزَيدَ بنِ عبدِ الله بن قُسَيْطٍ عن عطاءٍ بن يَسَارٍ عن زيدِ بن ثابتٍ قال "قرأتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم النّجْمَ فلَم يَسْجُدْ فيها". قال أبو عيسى: حديثُ زيدِ بن ثابتٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وتَأوّلَ بعضُ أهلِ العلمِ هذا الحديثَ فقالَ: إنّما تَرَكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم السّجُودَ لأنّ زيدَ بنَ ثابتٍ حينَ قَرَأ فلَم يَسْجُدْ لَمْ يَسْجُدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقالوا: السّجْدةُ واجبة على من سَمِعَهَا فلم يُرَخّصُوا في تركِهَا. وقالوا: إن سَمِعَ الرجُلُ وهو على غَيْر وضوءٍ فإذَا توضّأَ سَجَدَ. وهوَ قولُ سفيانَ (الثوري) وأهلِ الكُوفةِ. وبه يقولُ إسحاقُ. وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إنّما السّجْدَةُ على مَن أرادَ أن يَسْجُدَ فيها والْتَمَسَ فضْلَهَا، ورَخّصُوا في تَركِها إنْ أرادَ ذلكَ. واحْتَجّوا بالحديثِ المرْفوعِ، حديثِ زيدِ بن ثابتٍ (حيث) قال "قرأتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم النّجْم فلم يَسْجُدْ (فيها)" فقالوا: لو كانتْ السّجْدةُ واجبةً لَمْ يَتْرُكِ النبيّ صلى الله عليه وسلم زيداً حتّى كانَ يَسجُدُ ويَسْجُدُ النبيّ صلى الله عليه وسلم. واحْتَجُوا بحديثِ عُمَر: "أنهُ قَرأ سَجْدَةً على المِنْبَرِ فنَزَلَ فسجَدَ، ثم قَرأَهَا في الجمعةِ الثانيةِ فَتَهَيّأَ النّاسُ للسّجودِ، فقال إنها لم تُكْتَبْ علينَا إلا أن نَشَاءَ فلم يَسْجُدْ ولم يسْجُدوا. فذهبَ بَعْضُ أهلِ العلْمِ إلى هذَا وهوَ قَوْلُ الشّافَعيّ وأحْمَدَ. - قوله: (عن ابن أبي ذئب) هو محمد بن عبد الرحمَن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي المدني ثقة فقيه فاضل (عن يزيد بن عبد الله بن قسيط) بقاف مضمومة وسين مهلمة مصغراً وآخره طاء مهلمة ثقة من الرابعة. قوله: (قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها) احتج بهذا من قال إن المفصل ليس فيه سجدة كالمالكية أو أن النجم بخصوصها لا سجود فيها كأبي ثور. قال الحافظ في الفتح: ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقاً لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك إما لكونه كان بلا وضوء أو لكون الوقت كان وقت كراهة أو لكون القارئ كان لم يسجد، أو ترك حينئذ لبيان الجواز وهذا أرجح الاحتمالات وبه جزم الشافعي لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود ولو بعد ذلك انتهى كلام الحافظ. قوله: (حديث زيد بن ثابت حسن صحيح) وأخرجه البخاري. قوله: (وتأول بعض أهل العلم هذا الحديث قال إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم السجود لأن زيد بن ثابت حين قرأ فلم يسجد لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم) يعني أن القارئ إمام للسامع، فلما لم يسجد زيد لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً لزيد، ويدل على كون القارئ إماماً للسامع قول ابن مسعود لتميم بن حذلم وهو غلام فقرأ عليه سجدة فقال اسجد فإنك إمامنا فيها، ذكره البخاري تعليقاً، قال الحافظ في الفتح: وصله سعيد بن منصور من رواية مغيرة عن ابراهيم قال: قال تميم بن حذلم قرأت القرآن على عبد الله وأنا غلام فمررت بسجدة فقال عبد الله أنت إمامنا فيها. وقد روي مرفوعاً أخرجه ابن أبي شيبة من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم: أن غلاماً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم السجدة فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد فلما لم يسجد قال يا رسول الله أليس في هذه السجدة سجود؟ قال بلى ولكنك كنت إمامنا فيها ولو سجدت لسجدنا. رجاله ثقات إلا أنه مرسل، وقد روى عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال بلغني فذكر نحوه أخرجه البيهقي من رواية ابن وهب عن هشام بن سعد وحفص بن ميسرة معاً عن زيد بن أسلم به انتهى كلام الحافظ. (وقالوا السجدة واجبة على من سمعها ولم يرخصوا في تركها، وقالوا إن سمع الرجل وهو على غير وضوء فإذا توضأ سجد وهو قول سفيان وأهل الكوفة وبه يقول إسحاق)، وبه قال أبو حنيفة. قال العيني في عمدة القارئ: استدل صاحب الهداية على الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم "السجدة على من سمعها السجدة على من تلاها"، ثم قال كلمة على للإيجاب، والحديث غير مقيد بالقصد. قال العيني: هذا غريب لم يثبت وإنما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه قال السجدة على من سمعها، وفي البخاري قال عثمان: إنما السجود على من استمع، قال: واستدل أيضاً بالاَيات {فما هم لا يؤمنون. وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} {فاسجدوا لله واعبدوا} {واسجد واقترب}، وقالوا: الذم لا يتعلق إلا بترك واجب، والأمر في الاَيتين للوجوب انتهى كلام العيني. واستدل أيضاً بحديث أبي هريرة: إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلى النار، أخرجه مسلم. قلت: قول ابن عمر رضي الله عنه السجدة على من سمعها، وقول عثمان إنما السجود على من استمع، لو سلم أنهما يدلان على وجوب سجدة التلاوة فهو قولهما وليس بمرفوع، وقولهما هذا مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كما ستقف عليه. وأما قوله تعالى: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} فمعناه لا يسجدون إباءاً وإنكاراً كما قال الشيطان أمرت بالسجود فأبيت، فالذم متعلق بترك السجود إباءاً وإنكاراً. قال ابن قدامة في المغنى: فأما الاَية فإنه ذمهم لترك السجود غير معتقدين فضله ولا مشروعيته انتهى. وأما الاستدلال على وجوب سجدة التلاوة بقوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا}، وقوله {واسجد واقترب} فموقوف على أن يكون الأمر فيهما للوجوب وعلى أن يكون المراد بالسجود سجدة التلاوة وهما ممنوعان. قال الإمام البخاري في صحيحه: باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود، قال الحافظ في الفتح: أي وحمل الأمر في قوله: {اسجدوا} على الندب أو على أن المراد به سجود الصلاة أو في الصلاة المكتوبة على الوجوب، وفي سجود التلاوة على الندب على قاعدة الشافعي ومن تابعه في حمل المشترك على معنييه. ومن الأدلة على أن سجود التلاوة منها ما هو بصيغة الخبر ومنها ما هو بصيغة الأمر، وقد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر هل هي فيها سجود أولاً، وهي ثانية الحج وخاتمة النجم واقرأ، فلو كان سجود التلاوة واجباً لكان ما ورد بصيغة الأمر أولى أن يتفق على السجود فيه مما ورد بصيغة الخبر انتهى. (وقال بعض أهل العلم إنما السجدة على من أراد أن يسجد فيها والتمس فضلها ورخصوا في تركها قالوا إن أراد ذلك)، وهو قول الشافعي ومالك في أحد قوليه وأحمد وإسحاق والأوزاعي وداود، قالوا إنها سنة، وهو قول عمر وسلمان وابن عباس وعمران بن حصين وبه قال الليث كذا في عمدة القاري (واحتجوا بالحديث المرفوع حديث زيد بن ثابت قال قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فقالوا لو كانت السجدة واجبة لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم زيداً حتى كان يسجد ويسجد النبي صلى الله عليه وسلم)، أجاب العيني وغيره عن حديث زيد بن ثابت هذا بأن معناه أنه لم يسجد على الفور ولا يلزم منه أنه ليس في النجم سجدة ولا فيه نفي الوجوب انتهى. وقد عرفت في كلام الحافظ أن في ترك السجود فيها في هذه الحالة احتمالات، وأرجح الاحتمالات أنه ترك حينئذ لبيان الجواز (واحتجوا بحديث ابن عمر أنه قرأ سجدة على المنبر فنزل فسجد ثم قرأها في الجمعة الثانية فتهيأ الناس للسجود فقال إنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء فلم يسجد ولم يسجدوا)، أخرجه البخاري بلفظ: قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاءت السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر، وزاد نافع عن ابن عمر: أن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء انتهى. واستدل بقوله لم يفرض على عدم وجوب سجود التلاوة وأجاب بعض الحنفية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب. وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث وما كان الصحابة يفرقون بينهما، ويغني عن هذا قول عمر: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، واستدل بقوله إلا أن نشاء على أن المراد مخير في السجود فيكون ليس بواجب. وأجاب من أوجبه بأن المعنى: إلا أن نشاء قراءتها فيجب، ولا يخفي بعده ويرده تصريح عمر بقوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، بأن انتقاء الإثم عمن ترك الفعل مختاراً بدل على عدم وجوبه. كذا في فتح الباري. تنبيه: قال العيني في شرح البخاري: واحتجوا أي القائلون بعدم وجوب سجدة التلاوة بحديث عمر رضي الله عنه أن الله لم يكتب علينا السجود إلا أن نشاء وهذا ينفي الوجوب. قالوا: قال عمر هذا القول والصحابة حاضرون، والإجماع السكوتي عندهم حجة انتهى كلام العيني. وأجاب هو عن هذا بأن ما روي عن عمر رضي الله عنه فموقوف وهو ليس بحجة عندهم انتهى. قلت: العجب من العيني أنه لم يجب عن الإجماع السكوتي بل سكت عنه وهو حجة عنده وعند أصحابه الحنفية، قال هو في رد حديث القلتين ما لفظه: حديث القلتين خبر آحاد ورد مخالفاً لإجماع الصحابة فيرد بيانه أن ابن عباس وابن الزبير أفتيا في زنجي وقع بئر في زمزم بنزح الماء كله ولم يظهر أثره وكان الماء من قلتين. وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهما ولم ينكر عليهما أحد منهم فكان إجماعاً، وخبر الواحد إذا ورد مخالفاً للإجماع يرد. انتهى كلامه. فللقائلين بعدم وجوب سجدة التلاوة أن يقولوا نحن لا نحتج بمجرد قول عمر رضي الله عنه بل بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإن عمر رضي الله عنه قال هذا القول بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم. والحق أن هذا الاحتجاج احتجاج صحيح ليس عند الحنفية جواب شاف عن هذا الاحتجاج. وقد أنصف بعض الحنفية في تعليقاته على جامع الترمذي حيث قال: قوله واحتجوا بحديث عمر الخ ليس هذا مرفوعاً بل أثر عمرو هذا تمسك الحجازيين. وأما الجواب من جانب الأحناف بأنه موقوف ومذهب عمر رضي الله عنه فلا يفيد، فإنه بمحضر جماعة من الصحابة فيمكن للشافعية قول إنه إجماع جمهور الصحابة، فما أجاب أحد جواباً شافياً انتهى. ثم قال هذا البعض راداً على العيني ما لفظه: وقال العيني بحذف المستثنى المتصل لأنه أصل فيكون المعنى: أنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء مكتوبيتها. وقال أيضاً: إن المشيئة يتعلق بالتلاوة لا بالسجدة. وقال الحافظ إنها تتعلق بالسجدة. أقول تأويل العيني فيه أنا إذا قلنا إن المستثنى منه الوجوب والمستثنى هو التطوع يكون الاستثناء أيضاً متصلاً، وليس حد المتصل والمنفصل ما هو مشهور على الألسنة بل تفصيله مذكور في قطر الندى وشرح الشيخ السيد محمود الألوسي على المقدمة الأندلسية، وأيضاً يخالف قول العيني لفظ الباب فلم يسجد ولم يسجدوا الخ فإنه تحقق التلاوة في واقعة الباب. وأما قول إنه تأخير السجدة الاَن الاَن الأداء لا يجب في الفور فبعيد لأنه لا عذر ولا نكتة لترك السجدة الاَن بخلاف ما مر منّ واقعة النبي صلى الله عليه وسلم فلم أر جواباً شافياً انتهى كلام بعض الحنفية في تعليقه المسمى بالعرف الشذي. قلت: قول عمر رضي الله عنه ومن لم يسجد فلا إثم عليه دليل صريح على عدم وجوب سجدة التلاوة كما عرفت في كلام الحافظ، وأما تأويل العيني بأن معناه من لم يسجد فلا إثم عليه في تأخيره عن وقت السماع فباطل مردود عليه فإنه لا دليل على هذا التأويل.
|